فين الدولة؟ السؤال ده على لسان أي مواطن بيقابل مشكلة ما في الشارع. المجاري ضربت يا جماعة، هي فين الدولة؟ سينا بتولع، فين الدولة؟ أسعار البنزنين فرقعت، فين الدولة؟ الثقافة السينمائية منحطة، فين الدولة؟ فين الحكومة؟ فين المسؤولين؟ الواحد بيسمع النوع ده من الأسئلة كل يوم، ولكنها في الواقع غريبة. السؤال بيفترض إن فيه كيان اسمه “الدولة”، وإن الكيان ده مسؤول عن المجاري وسينا والبنزين والثقافة السينمائية في نفس الوقت، وإن أي حاجة تحصل في البلد لازم تبقى تحت حكم الكيان ده. يعني قبل ما نسأل هي فين الدولة، لازم نسأل هي إيه الدولة اللي الناس بتتكلم عنها من أساسه؟
في مقال عنوانه “بعض الملاحظات عن صعوبة دراسة الدولة”، عالم الاجتماع فيليپ أبرامز (Philip Abrams) فرّق بين نظام الدولة وفكرة الدولة. نظام الدولة هي مجموعة المؤسسات اللي بتكوّن الكيان المعروف باسم “الدولة”: هي الجيش والشرطة وحرس الحدود والسجل المدني وإدارة المرور والشهر العقاري وأجهزة الأمن والسنترال ومصلحة الجوازات ووزارة المالية وسجن طرة. كل المؤسسات دي فيها موظفين بيفرضوا تعامل معيّن مع الشعب، سواء كان من ناحية الطوابير اللا متناهية، أو الأوراق اللا متناهية، أو الرشاوي اللا متناهية. أما فكرة الدولة بعيدة عن التفاصيل دي. هي فكرة إن فيه كيان بيتعامل مع الشعب ككل وكأنه شخص واحد وموّحد، بياخد وبيدي مع الشعب، وأي فعل في أي جهة حكومية في أي وقت محسوبة على الكيان ده.
طبعاً فيه تناقض واضح هنا. من ناحية فيه مؤسسات كثيرة بتسيطر بأشكال مختلفة على فئات مختلفة من المواطنين، ومن ناحية ثانية فيه فكرة موّحدة لكيان موّحد بيتعامل تعامل واحد مع الشعب. التناقض ده مش معناه إن فكرة الدولة خيالية وإن نظام الدولة هو اللي واقعي. بالعكس، فكرة الدولة فعّالة لأنها مبررة في كل أفعال نظام الدولة. أي موظف مجتهد بيقرر مايمضيش على ورقة ولو بخلاف القانون، في الآخر مالوش فيه، لأنه بيجسّد سلطة “الدولة”، بعيداً عن أي ضوابط قانونية وأخلاقية في المؤسسة اللي بيشتغل فيها. وكذلك أمين الشرطة اللي بياخد إتاوة والسفير اللي بيرفض يتدخل في استغلال العمال المصريين في الخارج. في جميع الأحوال، فيه أجزاء من النظام بتتعامل بمزاجها، ولكنها دايماً ساندة ضهرها بفكرة الدولة. وحتى الخبراء الإستراتيجيين التلفزيونيين المحترمين بيبرروا أبشع أفعال النظام طالما كانت في سبيل الدفاع عن “الدولة”.
إنما أبرامز بيفكرنا إن فكرة الدولة ماهياش مُنزَلة ولا هي أزلية. مفهوم الدولة القومية الحديثة نفسه ماكانش منتشر قبل القرن الـ19، ولكن فكرة الدولة اترسخت في عقولنا بسبب تحالف قوات تاريخية كثيرة جداً، ومن ضمنها الإشاعات اللي بيروّجها نظام الدولة عن نفسه. باختصار، النظام محتاج لفكرة الدولة عشان يستمر في صورته الحالية. ولو كنا كلنا شايفين النظام بوصفه مجموعة من المؤسسات المتفرقة اللي ساعات بتتعاون مع بعض وساعات بتحارب بعض، واللي بتفرض تعامل شكل مع الموظفين وتعامل شكل مع المواطنين، عمر ما كان حد يعتبر إن المجاري والبنزين وسينا والثقافة السينمائية تحت سيطرة كيان واحد. وإنما لما إدارة المرافق والطاقة والدفاع والثقافة تبذل مجهود ضخم عشان تشيع إنها جزء من الدولة، الواحد بيبدأ يراجع نفسه ويفكر إن كل المؤسسات دي فعلاً تحت حكم كيان واحد وموّحد اسمه “الدولة”.
التناقض بين فكرة الدولة ونظام الدولة عمره ما بيختفي تماماً، ودي من أكبر الصعوبات في مواجهة السؤال اللي بدأنا بيه: هي فين الدولة؟ أنا عن نفسي باسأل السؤال ده كل مرة أعدي كوبري عباس وألاقي شارع المنيل مقفول من عند شارع عبد العزيز أبو السعود، لأن مافيش لا إشارة ولا عسكري ولا واحد عاقل في إدارة المرور يسلّك السكة، اللي بكل منطق ممكن تتسلك في نصف ثانية تخطيط. التناقض بيبان في لحظات زي دي بالضبط. من ناحية، الواحد بيحاول يرجع لفكرة الدولة عشان يلاقي مسؤول واضح لأزمة الشارع في المنيل. ومن ناحية ثانية، الرجوع لفكرة الدولة بيبيّن الغياب الفعلي لنظام الدولة، اللي كان مفروض في الواقع يسلك الأمور من نفسه. الوضع في المنيل ما يخصش لا الشرطة ولا السجل المدني ولا أي مؤسسة ثانية من المؤسسات المحسوبة على فكرة الدولة إلا إدارة المرور، وإنما يوم ما إدارة المرور هاتصحصح وتسلك الإشارة، الناس هاتقول إن “الدولة” هي اللي سلكت الأمور. يعني لما نظام الدولة بيصحصح، بيشتغل برضه على أساس فكرة الدولة. والأهم من كده، إدارة المرور هاتشكر نفسها على مجهودها كجزء فعّال من الدولة. إذن الغريب إننا حاسين بتماسك فكرة الدولة رغم إن النظام متفكك، والأغرب إننا حاسين بوجود الدولة حتى في غيابها.