المعجم الأوروبي في العامية المصرية

 يُمَيِز عالم اللغويات الاجتماعية الأمريكي مايكل سيلفرستين (Michael Silverstein) بين مفهومين أساسيين لدراسة اللغة: مفهوم بنيوي يعتمد على تفكيك اللغة وعناصرها الرئيسية من تشكيل الأصوات وتركيب الجمل والنحو والبلاغة إلخ، ومفهوم أيديولوجي يحوي الاعتقادات السائدة عن استخدام العناصر البنيوية في اللغة تحت ظروف تاريخية وثقافية محددة. نادراً ما تولى تاريخ التفكير في اللغة العربية هذا الفارق الهام، ويسود الظن بأن اللغة العربية الفصيحة واضحة وصريحة في بنيتها، وأنه ليست هناك تساؤلات حول الاعتقادات التي تسمح بوجود فروق بديهية بين بنية اللغة واستخدامها اليومي.

ضمن الاعتقادات القليلة التي حازت على مثل هذا الإهتمام في مجال اللغويات الاجتماعية العربية (Arabic sociolinguistics)، هناك أولاً الاعتقاد بأن اللغة العربية الصحيحة تنبع مباشرةً من القرآن، وثانياً الاعتقاد بأن اللغة العربية تنقسم إلى مستويي اللغة الفصيحة والعامية. إذا اكتفينا برؤية لغوية بحتة، سنجد أن الاعتقادين غير صحيحين. بخلاف الاعتقاد الأول، توجد دراسات كثيرة عن التأثير المتواصل بين اللغات السامية – وتحديداً اللغات المتداولة في الجزيرة العربية ما قبل الإسلام – واللغة العربية الصحيحة بعد الوحي القرآني، مما يثبت أن اللغة العربية لا تنبع بشكل مباشر ومنفرد من القرآن الكريم. وفي حالة الاعتقاد الثاني، فتزعم دراسات عديدة (وضمنها دراسات أحمد السيد بدوي الشهيرة عن العامية المصرية) أن اللغة العربية تنقسم إلى أكثر من مستويين، وأنها تتضمن مثلاً لغة الفقه ولغة الإعلام ولغة الطبقات الوسطى ولغة الطبقات العاملة إلخ، مما يثبت أن الثنائية المتخيلة بين الفصحى والعامية ليست ثنائية بالفعل.

رغم عدم  صحتهما اللغوية بالمعنى البنيوي، فإن الاعتقاد في أولوية القرآن كأصل للفصحى وثنائية  الفصحى والعامية لا تزالان أيديولوجيتين لغويتين سائدتين، ولهما دلالات اجتماعية هامة في العالم العربي. فتعد”أولوية” اللغة القرآنية أساسية للتفكير في السلطة الشرعية الإسلامية في تاريخ الفقه والشريعة والمؤسسات الدينية، بينما تتجلى المسافة الراسخة بين اللغة الفصيحة واللغة العامية في بعض التصورات عن الفارق بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية في الأوساط النخبوية. لا أريد الاستفاضة في هذه الأيديولوجيات التي أحللها سريعاً، بل أريد الإشارة في هذا المقال إلى أيديولوجيا لغوية أخرى وخاصة بالعامية المصرية، وهي ما أسميه ب”أيديولوجيا الأصالة”.

أكد الكثير من الباحثين في الثقافة الجماهيرية المصرية أن العلاقة بين أصالة مصر وتأثير أوروبا معقدة ومتناقضة – ونذكر ضمن أهم هؤلاء الباحثين وولتر أرمبروست (Walter Armbrust) وليلى أبو لغد (Lila Abu Lughod). فالتأثيرات الأوروبية واضحة في جوانب عديدة من الثقافة المصرية الحديثة – في السينما والأدب والفن التشكيلي والإعلام والاستهلاك المادي – بينما يزعم الرأي العام أن التأثير الأوروبي يفسد أصالة مصر ويضعف كينونتها الوطنية. في رأيي أن هذه المفارقة تحكم الاعتقادات السائدة عن العامية المصرية، حيث يعتقد المواطن المصري أن استخدام هذا المستوى اللغوي يتمتع بأصالة لا شك فيها، ويظهر هذا التصور في بعض الأفكار الشائعة عن صعوبة تقليد وترجمة اللغة العامية والمجازات الشعبية، رغم أن بنية العامية تعتمد على عناصر “غير مصرية” إن قسناها بمعيار الأصالة الوطيدة.

إذن علينا أن نبحث عن  المعايير الاجتماعية التي تفرّق بين “الأصيل” و “غير الأصيل” في اللغة المصرية، علماً بأنها معايير خارجة عن بنية اللغة نفسها، وأنها تظهر تحت شعار لغوي-أيديولوجي في ظروف تاريخية محددة. يبدو الأمر واضحاً في حالة المصريين المتحدثين بالفرنسية والإنجليزية مثلاً، الذين يخلطون بين اللغات في حديثهم اليومي إلى أن تختفي الحدود المعتادة بين “العربي” و”الأجنبي”. ويصبح السؤال في هذه الحالات: أين يبدأ الحديث الأجنبي وأين ينتهي الحديث العربي عند متحدث ما؟ ولماذا نضع حداً قاطعاً بين اللغتين إذا كانتا مختلطتين في الحديث اليومي؟ يعود هذا الفرق إلى ارتباط المتحدثين المصريين بأيديولوجيا أصالة العامية في رأيي، وتقع تلك الأيديولوجيا بين واقع وجود كلمات أعجمية عديدة في حديثهم اليومي، والمحو الضمني للأسس التاريخية التي أدت إلى هذا الوجود عبر إصرار أيديولوجي على التفرقة بين اللغة المحلية “الأصيلة” واللغة الأجنبية “غير الأصيلة”.


هناك مجموعة من الملاحظات عن استخدام اللغة العامية في الميكانيكا والسينما توضح أطروحة هذ المقال. من الواضح أن هذه المجالات قد امتصت معجماً غير عربي كبيراً عبر الزمن. ربما يربط البعض هذا النوع من الامتصاص في اللغة العربية الفصيحة بتأثير لغات الشعوب التي وقعت تحت سيطرة العرب منذ بدايات الإسلام، وضمنها الفارسية واليونانية الإغريقية مثلاً. ولكن ما يعطي للعامية المصرية خصوصيتها الحالية هي مجموعة من التأثيرات الموروثة عن تاريخها الحديث: كلمات تركية ورثتها العامية عن العصر العثماني والملكي، وكلمات إيطالية ورثتها عبر الهجرات الإيطالية المصرية في القرن ال19 وال20، وكلمات فرنسية ورثتها عن تحديث الجيش والدولة والصناعة بحسب النموذج الفرنسي في عهد محمد علي باشا وعائلته، وكلمات إنجليزية ورثتها منذ الاستعمار البريطاني حتى السيطرة الأمريكية بعد الانفتاح.

ليس بوسعي أن أعلل أصول هذه الكلمات بالتفصيل، ولكن من المؤكد أن المعجم العامي يحوي العديد من العبارات ذات المرجع الأوروبي. لهذه الملاحظة أهمية خاصة، لأن أيديولوجيا الأصالة اللغوية السائدة ليست أيديولوجيا “عربية” بمعنى الكلمة. فعندما يقال إن “الكلمة دي مش عربي”، لا يعني المتحدث دائما أن هذه الكلمة ليس لديها مصدر في العربية الفصيحة، بل يعني أنها ليست جزءاً من المعجم المصري “الأصيل”، الذي يحوي في الواقع اللغوي البنيوي كلمات من أصول تاريخية متعددة.

فمثلاً تُعتبر كلمة “أيوة” من أكثر الكلمات أصالةً في العامية المصرية، ولكنها أصلاً مسخ من الكلمة التركية “إيڤيت” (evet). وكذلك تشير كلمة “روبابيكيا” إلى ممارسة تبدو شديدة المصرية، ولكن الكلمة أصلاً مسخ من الإيطالية “روبا ڤيكيا” (roba vecchia)، التي تعني “أشياء قديمة” في سياقها الأصلي. هذه الأصول ليست حاضرة في ذهن جميع المصريين المعاصرين، وربما يسخرون من اكتشاف الأصول الأوروبية للروبابيكيا، ولكن يظل الانطباع أن هذه الكلمة وهذه الممارسة مصريتين للغاية، ومن المدهش أن هذا الانطباع يسري أيضاً فيما يخص أغلب الكلمات المصرية ذات الأصول الإيطالية: جوانتي (guanti)، ماكينة (macchina)، فاتورة (fattura)، تورتة (torta)، لمبة (lampa)، فرن (forno)، صالة (sala). ليس لهذه الكلمات جذور عربية، ولكن لا تثير أصالتها أي شكوك لأي متحدث بالعامية المصرية، وتُستَعْمل تلك الكلمات بلا مقابل ذي جذر عربي في الحديث اليومي.

بعيداً عن اللغة اليومية، ينطبق هذا المنطق اللغوي على بعض الكلمات الأوروبية المستخدمة في حِرَف صناعية تبدو “مصرية” بلا شك في رأي متخصصيها، في حين أنها تبدو “غير مصرية” بالنسبة إلى المتحدث غير المتخصص. هذا وضع واضح في حالات مثل ميكانيكا السيارات وصناعة السينما، والجدير بالذكر أن  كلمتي “ميكانيكا” و”سينما” أصلهما أوروبي! إن إختلف مجالا الصيانة والسينما في كل شيء، يجتمعا في نقطة تاريخية هامة، وهي أنهما نشاطان تم تداولهما في مصر عبر وجود فنيين ذوي أصول أوروبية في بدايات القرن ال20، واستمر المعجم التقني الذي كان يستعمله هؤلاء الفنيين في العامية المصرية المعاصرة بشكل أو بآخر. ليست لدي أية أدلة علمية عن الأسباب التاريخية التي أدت إلى استمرار هذا المعجم المحدد في شكله الحالي، ولماذا أصبح جزء كبير منه معرّباً، ولماذا احتفظت بعض المصطلحات بنطق مصري مطوع عن الفرنسية أو الإيطالية أو الإنجليزية. ورغم عدم وضوح تلك الأمور، سأسعى في السطور الآتية إلى مراجعة بعض المفردات اللغوية لهذا المعجم التقني لكي أصف رؤية المصريين المعاصرين ل”أصالة” العامية المصرية.


يوجد قدر كبير من المصطلحات التقنية في صناعة السينما المصرية ترجع إلى جذور عربية. نستطيع أن نذكر مثلاً مهنة “المخرج” و”مدير التصوير” و”المنتج”. توجد أيضاً مهن أخرى احتفظت بأسمائها الإيطالية أو الإنجليزية أو الفرنسية – مثل “الجيرافيست” (giraffista) الذي يحمل المايكروفون فوق الممثلين، و”الفوكس بولر” (focus puller) الذي يعدل عدسات الكاميرا، و”الجافر” (gaffer) الذي يعتني بالإضاءة السينمائية، و”المونتير” (monteur) الذي يقوم بتوليف اللقطات السينمائية، و”الميكسير” (mixeur) الذي يولف الصوت والصورة في أواخر مراحل الإنتاج، و أسطى “الأكسسوار” (accessoire)، و”البوفيه” (buffet)، و”الكومبارس” (comparse). يوجد مثل هذا التنوع في معجم العمليات التقنية السينمائية: فكما أن المخرج يخرج ومديرة التصوير تصوّر، فإن المونتير “يمنتج”، والميكسيرة “تمكسج”، والممثل “يدبلج”، أي يشارك في “دوبلاج” (doublage) الصوت فوق الصورة.

فيما يخص تقنيات وآلات التصوير التي يستخدمها السينمائيون، فلا يوجد تقريباً أي استخدام لمصطلحات من أصول عربية. توجد بعض المصطلحات من أصول إيطالية، مثل “البطارية” (batteria) و”البوبينة” (bobina)؛ وبعض المصطلحات من أصول فرنسية، مثل “السيناريو” (scénario) و”الكابل” (câble) و”الشاريوه”[1] (chariot) و”الستوديو” (studio) و”الكلاكيت” (claquette) و”الجيلاتين”[2] (gélatine) و”النيجاتيف” (négatif) و”التيترات” (titres) و”الراكور” (raccord) و”الأمورس”[3] (amorce)؛ وبعض المصطلحات من أصول إنجليزية، بما في ذلك “الشوت” (shot) و”الزوم” (zoom) و”الفوكس” (focus) و”اللوكيشن” (location) و”المونيتور” (monitor) و”البروجكتور” (projector).

مع استثناء بعض الكلمات التي تبدو إنجليزية، يرى المتخصصون في صناعة السينما المصرية  أن هذا المعجم التقني مصري باميتاز، ولا أحد منهم يبدي شكاً فيما يخص أصالته. عندما سألت إحدى الصديقات التي تعمل بمجال المونتاج إن كانت تعرف كلمة عربية لتعريف “المونتاج”، أجابت أن كلمة “مونتاج” هي الكلمة العربية المطلوبة. وعندما أضفت أن كلمة “توليف” كانت تُستخدم في بعض الأحيان لتعريف عملية المونتاج في بدايات القرن الماضي، لم تعرفها صديقتي وأكدت مرةً أخرى أن الكلمة الوحيدة التي تعرفها هي كلمة “مونتاج”. علينا أن نلاحظ هنا أنني وصديقتي بدأنا بمفهومين مختلفين عن اللغة العربية في أساسها: بالنسبة لي، الكلمة العربية ل”مونتاج” تتضمّن بعض الشروط البنيوية في اللغة، مثل وجود جذر عربي للكلمة، ولكن بالنسبة لها، العربي هو العامية المصرية كما تُمارس حالياً. ربما تَعَجَبَت من سؤالي لهذا السبب، ولم تقتنع بالترجمة الفصيحة التي قدمتها.

“المونتاج” هو بالفعل التعبير الصحيح في العامية المصرية الحالية، رغم أن الكلمة ليست عربية الأصل، بل تم تعريبها إلى  درجة أنها قد اكتسبت  جذراً شبه عربي على وزن “مَفْعَلَ” وصار تصريفها: “مَنْتَج – يُمَنتِج – مونتاج”، وهكذا أصبح المصطلح جزءاً من مجموعة أوسع من المصطلحات الأوروبية التي انسجمت داخل العامية المصرية، لفظياً ونحوياً، حتى اكتسبت جذراً جديداً في اللغة. فأصبح مصطلح “الميكساج” موزوناً على وزن “مكسج – يمكسج – ميكساج”، كما أصبحت مصطلحات إلكترونية أكثر انتشاراً موزونة على وزن آخر: “صَطَب – يُصَطِب – تصطيب” (setup)، “فيّل – يفيّل – تفييل” (file).

يجب الالتفات إلى أنه يوجد فرق هام بين المصطلحات الفرنسية الأصل والمصطلحات الإنجليزية الأصل في العامية المصرية، وهو أن الكلمات التي أتت من اللغة الأولى لا تثير الشكوك فيما يخص أصالتها، بينما تظل الشكوك حائمة حول الكلمات في اللغة الأخرى. لا ينبع هذا التباين من أسس لغوية بنيوية، حيث إن جذور النوعين من الكلمات لديها أصول غربية وليست عربية، ولذلك يُفترض أن كليهما يفتقر إلى الأصالة حسب الأيديولوجيا المحلية السائدة. ولكن ربما نستطيع أن نشرح هذا الاختلاف عبر أطروحة تاريخية بسيطة، وهي أن  المصطلحات التقنية الفرنسية قد تطبعت بطابع مصري في الاستخدام اليومي عبر القرن الماضي، إلى أن اختفى أصلها الفعلي من الذاكرة الجماعية، بينما لا تزال المصطلحات الإنجليزية حاضرة في الذاكرة الراهنة ومازال ارتباطها بأمريكانية المعجم التقني الرقمي منذ بدايات التسعينيات حياً في الأذهان، مما  يعطي الانطباع بأن أفعالاً يومية مثل “التصطيب” و”التفييل” لا تتمتع بالأصالة، لأنها مرتبطة بالفترة التاريخية والتكنولوجية الحالية.

تلك الفترة هي أيضاً فترة انتشار التحويل اللغوي (code-switching) بين الإنجليزية والعربية ضمن الطبقات التي ترسل أبناءها إلى مدارس اللغات الخاصة، وتكاثر الإعلانات المكتوبة باللغة الإنجليزية فقط، وتضاعف عدد الفصول الخاصة بتعليم اللغة الإنجليزية، إلخ. بوسعنا أن نرى الارتباط بين اللغة الإنجليزية والتأثير الأمريكي في مصر، وربما لذلك تُستهدف اللغة الإنجليزية في المحاولات المحلية للفصل بين العامية الأصيلة واللغات الدخيلة. إذن فانتشار المصطلحات الفرنسية والإنجليزية في العامية المصرية، وفي اللغة التقنية التي يستخدمها  صناع السينما بشكل أدق، لا تأثّر في الفرق الأيديولوجي بين النوعين من اللغات – القومية والأجنبية – وذلك رغم وجود ارتباطات تاريخية محفوظة في الذاكرة – في حالة اللغة الإنجليزية والعامية المصرية – أو فُقِدَت من الذاكرة – في حالة اللغة الفرنسية والعامية المصرية.


لا يجب الخلط بين هذا الوضع اللغوي الخاص والتحويل اليومي بين اللغات عند المصريين الذين يتقنون عدداً منها، مثل المواطن الذي يستخدم تعبيرات إنجليزية وفرنسية في كلامه اليومي وينتقل دائماً بين العربية والإنجليزية والفرنسية مثلاً. تبرز تلك الحالات وعياً مختلفاً عن وعي المعتقدين بأيديولوجية أصالة العامية المصرية، عندما ينطق المواطن بعض الكلمات ذات أصول أجنبية بلكنة أجنبية، مما يربك نظيره المتحدث باللغة العربية، الذي قد لا يفهم دائماً الكلمات في نطقها الأجنبي. من الأمثلة الحاضرة بشدة في ذهني: كلمة “مارشدير”، أي السير إلى الخلف بالسيارة، وهي عبارة عن اقتباس للكلمة الفرنسية “مارش آريير” (marche-arrière). كلما أنطق الكلمة بالفرنسية، لا يفهمني الآخرون، وقد يتطور الموقف إلى أن يدرك نظيري أخيراً ما الذي أسعى إلى قوله، فيصحح لي نطقي مؤكداً أن العبارة السليمة هي: “مارشدير”.

لا أحكي هذا الموقف لكي أثبت أن المصريين المعاصرين يجهلون النطق “الصحيح” لكلمات ذات أصل أوروبي، فلا يعد هذا النوع من التصحيح سوى محاولة لإثبات التميز الطبقي في مصر. لكنني أريد فقط أن أشير إلى الوضع الذي جعل من “مارشدير” الطريقة الأصيلة لنطق “مارش آريير” بالعامية – وكيف يبدو أي نطق آخر للكلمة (وبما في ذلك النطق الفرنسي) أجنبياً بالنسبة للمتحدث بالعامية. يؤكد هذا المثال الفرق المعروف بين المعجم الأوروبي في العامية المصرية والتحويل بين العربية واللغات الأجنبية. عندما أقول “مارش آريير” حسب النطق الفرنسي، أبدو وكأني أحول المعجم بين العربية والفرنسية. وعندما أقول “مارشدير” في المقابل، يبدو فقط أنني أستخدم المعطيات اللغوية المتاحة داخل العامية نفسها.

باختصار، تنشأ العامية المصرية في رحم أيديولوجيا لغوية لا تعترف بأصل الكلمات والمصطلحات المتاحة في اللغة، بل تتأسس بحسب قربها النسبي من نماذج لغوية تاريخية محكمة ومعترف بها داخل مصر. وإذا قدنا هذه الأطروحة إلى أبعد تداعياتها، فيمكننا أن نقول إن الوحيد الذي يستطيع رؤية معجم “أوروبي” في العامية المصرية هو النظير الأجنبي نفسه، لأن معظم هذا المعجم يُعتبر داخل النطاق الأصيل الأيديولوجي  المعترف به تحت مسمى “العامية” عند المصريين المعاصرين، بما في ذلك الإخصائيين مستخدمي المعاجم  التقنية الخاصة مثل اللغة السينمائية واللغة الميكانيكية.

يعد هذا الاعتراف في حد ذاته “أيديولوجياً” لأن حدوده واضحة حسب المنطق اللغوي البنيوي، وخاصةً في حالة المصريين المتحدثين بعدد من اللغات. فلنا أن نتسائل: لماذا تُعتبر “مارشدير” كلمة مصرية و”مارش آريير” كلمة فرنسية بالنسبة للمواطن المصري؟ ولماذا يعد “المونتاج” مصطلحاً مصرياً أصيلاً بينما يظل “السوفت وير” استلهاماً من الإنجليزية بالنسبة لصنّاع الأفلام؟ لا توجد إجابة لغوية بحتة لهذه الأسئلة، لأنها تخص أيديولوجيا متطبعة في الظرف التاريخي والاجتماعي الراهن، وتفرّق بين الكلمات الأصيلة والكلمات الأخرى بناءً على الموقف التاريخي. وهذا الإدراك هو الذي يجعل صديقتي المونتيرة تقول إن الكلمة العربية للتعبير عن المونتاج هي “مونتاج”، لأنها في الغالب لا تعتبر أن المكان  الطبيعي لهذه الكلمة هو اللغة الفرنسية. وإن كانت قد أقرت بأن المكان الطبيعي لكلمة “مونتاج” هو الفرنسية، فإنها لم تستطع أن تفكر في كلمة بديلة في العربية بالمعنى البنيوي.

ربما تصبح المصطلحات التي نراها “إنجليزية” اليوم جزءاً مما سنعترف به كعامية مصرية أصيلة بعد عقود. ويبدو هذا منطقياً في ظل الاستيعاب التام للكلمات الفرنسية والإيطالية في العامية المعاصرة. وستظل دراسة العملية اللغوية الأيديولوجية التي تؤدي إلى تفرقة اللغات والمستويات اللغوية حاضرة في ظروف تدفع نحو تعدد اللغات في مصر. ربما تصعب علينا القفزة بين هذه الملاحظات عن الأيديولوجيا اللغوية من ناحية، والممارسات الاجتماعية النابعة عن الصورة الوطنية النمطية للهوية المصرية الحديثة من ناحية أخرى. فالقدرة على الانتباه إلى الأصول الأوروبية لبعض التعبيرات العامية تتطلّب مجهوداً لا تربطه صلة مباشرة بدراسة الهوية القومية. ولكني أريد  لفت النظر إلى أن أيديولوجيا الأصالة التي تسود حول العامية المصرية تقدم دلائل إضافية لتفكيك الأفكار المهيمنة حول أصالة “مصر”. إن الكيان الذي نسميه ب”مصر” يحوي تأثيرات تاريخية عديدة، وضمنها تأثير أوروبي واضح في العامية المصرية، رغم أن الخطاب الرسمي يرفض الاعتراف بهذا التأثير باسم أصالة البلاد.


[1] الشاريوه هي الآلة التي تُستخدم لتحريك الكاميرا أثناء زاويات ال”تراك إن” (track-in) أو “تراك أوت” (track-out)، أي تقريب الكاميرا من الشخصيات أو إبعادها.

[2]  الجيلاتين عبارة عن أنواع مختلفة من الورق الشفاف ذي درجات عديدة من الشفافية والألوان، ويوضع فوق أضواء السينما الكبيرة حتى يعطي تأثير ضوئياً مختلفاً كل مرة، سواء كان بالتحكم في شدة وانتشار الإضاءة  أو لونها.

[3] الأمورس هي الزاوية السينمائية التي يتم تصويرها من ظهر كتف الشخصية (أ) إلى وجه الشخصية (ب)، و”الكونتر” (مختصر من contre-amorce) هي الزاوية المعاكسة.

نُشر هذا المقال في أخبار الأدب، عدد 14 يوليو 2019