ليه الجيش بيبني طرق وكباري؟ ناس كثير تقول لك كثّر خيرهم، ومافيش حد يقدر يبني زي الجيش. بس إشمعنى طرق وكباري؟ وليه ما يكتفوش بعمارات ومحلات ومباني عسكرية؟ أكيد فيه كذا إجابة للسؤال: ناس تقول لك إن الجيش قلبه على الشعب، والحكومة عاجزة عن صيانة البنية التحتية، وناس تقول لك إنهم عايزين يبنوا أشياء ضخمة وواضحة تفكر الناس بإنهم “وعدوا وأوفوا”. أما إجابة الفيلسوف جيل دولوز، فهي إن الجيش عايز “يسيطر”، مش بمعنى السيطرة بتاع الفتوة اللي بيسيطر في المنطقة، وإنما بمعنى ممارسة القوة من غير ما اللي متسيطر عليه يحس بأي إشكال.
كتب دولوز عن “مجتمعات السيطرة” في مقال قصير بيناقش فيه نظريات فوكو عن “مجتمعات الانضباط”، بمعنى المجتمع المبني على مؤسسات زي الجيوش والمستشفيات والمدارس والسجون، اللي كانت طاغية في القرن الـ19 بس ضعفت واتفككت في القرن الـ20 حسب دولوز، لدرجة إن ممارسة القوة في المجتمعات الأوروبية الحالية ما عادتش راجعة للانضباط. يعني تكوين شخصية البشر وخضوعهم للنظام ما عادش راجع لضبط أجسامهم في أماكن مقفولة زي المدارس والمصانع وأحيانًا السجون والجيش، ولكن بقى بيتم حتى لو الأماكن دي اتفتحت: حتى لو التلميذ بقى ياخد دروس خصوصية، أو لو المستشفى بقت تقدم خدمات منزلية، أو لو أماكن الشغل بقت تسمح للعمال بحرية في المواعيد.
تعامل المؤسسات اختلف: بقى الطالب الأوروبي المثالي ممكن يعلّم نفسه بنفسه برة المدارس، والمريض يعالج نفسه بنفسه برة المستشفيات، والعامل يتابع نفسه بنفسه، ودي ظواهر انتشرت في ظل ترتيب المؤسسات العامة على شكل الشركات الخاصة في أوروبا وأومريكا. فكرة إن البشر أفراد وماحدش مسؤول إلا عن نفسه اترسخت في مؤسسات كثيرة هناك، والمؤسسات دي عمالة تتفكك لغاية ما الناس بقت على وشك إنها تبات في الشارع. طبعًا أسباب تفكك المؤسسات الأوروبية غير أسباب تفككها في مصر، ولكن النتيجة قريبة: الولاد ما عادوش يتعلموا إلا بدروس خصوصية، والمرضى ما بيتعالجوش في مستشفيات وإنما في عيادات خاصة، والعمال مابقوش يشتغلوا في مصانع والكل بياخد بما يرضي الله.
فكرة دولوز إن الحكم ما بقاش محتاج لمؤسسات مقفولة عشان يضبط فيها أجسام وشخصيات البشر، لأنه مسيطر عليهم بأشكال مختلفة، أشكال الواحد مش شرط يفكّر فيها، ولكنها بتحجّم تعاملات البشر بشكل تام، وهي دي السيطرة. يعني مثلًا، لما أي بني آدم ماشي في الشارع يبقى في جيبه بطاقة شخصية، ورقم البطاقة متسجل في جهاز مركزي، أي أمين شرطة معدّي ممكن يقش البطايق ويعرف كل حاجة عن البني آدمين دول من غير أي تعب. ولذلك أغلبية الناس خايفة تمشي في الشارع من غير بطاقة، مع إن مش شرط أي حد يوقّفهم أو يطلبها منهم. إحساس إن الواحد لازم يكون معاه بطاقة لاحسن يضطر يوريها لحد معدّي بيكفي عشان الحاكم يعرف يسيطر، حتى بطريقة غير مباشرة وغير مركزية.
إيه علاقة ده بالطرق والكباري؟ في الواقع، طريقة السيطرة على الناس بالبطايق الشخصية زي طريقة السيطرة عليهم بالطرق والكباري. زي ما الواحد ما يعرفش يمشي في الشارع من غير بطاقة، الواحد مش هيعرف يمشي أصلًا لو مافيش شارع. بس قرار بناء الطريق ده تحديدًا، والكوبري ده تحديدًا، بيدّي قوة للي مسيطر على البناء، وفي نفس الوقت بيدّي إحساس ذاتي للشخص المتسيطر عليه بإنه حر. زي ما لمح دولوز عن الطرق السريعة في أوروبا، مافيش إحساس أحلى من إن الواحد يكون ماشي على الدائري وهو فاضي وشايف إن الطريق كله بتاعه. بس الإحساس ده ما يمنعش إننا نفتكر مين اللي بنى الطريق وليه، ونفكّر ليه الطرق والكباري اللي بتتبني دي في الأماكن اللي مبنية فيها، ومش شرط في أماكن الناس فعلًا محتاجة لها.
نُشر هذا المقال على موقع التحرير في 28 مايو 2016، وهنا رابط المقال الأصلي