يقال إن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:
غلا السعر على عهد رسول الله (صلعم)، فقال الناس: “يا رسول الله، غلا السعر فسعّر لنا”. فقال رسول الله (صلعم): “إن الله هو المسعّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني في دم ولا مال”.
هذا الحديث يبدو أبعد ما يكون عن النظام الاقتصادي الراهن. حسب النظرية الاقتصادية المنتشرة اليوم، آليات العرض والطلب هي التي تحدد الأسعار في السوق، وأصبح السوق “المسعّر القابض الباسط الرازق”. تتباين هذه الفكرة بأوضح صورة في آراء الاقتصاديين الليبراليين، الذين يعتبرون آليات العرض والطلب كعوامل طبيعية مثل اتجاه الرياح وحركة الأجسام الفلكية. بينما يرى الرسول (صلعم) أن التسعير نتيجة لأغراض لا يعلمها إلا الله، يتصور الاقتصاديون المعاصرون أن التسعير لا يعلمه إلا السوق، وأن دورهم يقتصر على تأويل رغبات السوق مثلما أوّل الفقهاء رغبات الله ورسوله (صلعم).
سيعترض بعض الاقتصاديين بحجة أن دراساتهم تعتمد على أدوات إحصائية وعلمية حديثة، ولذلك لا يمكن مقارنتهم بالفقهاء. إنما الأدوات المستخدمة لا تعنينا بنفس قدر المفهوم الجوهري. يفترض علم الاقتصاد الليبرالي أن الأسواق تتقبل الدراسة في ذاتها مثل الظواهر الطبيعية، ولكن هذا العلم لا يؤرخ للعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التي سمحت بوجود هذه الظواهر
فمثلاً لا يمكن دراسة سوق السيارات في مصر كتقاطع بين طلب السيارات وعروض الشركات الأمريكية واليابانية والألمانية لأن السوق يتشكل أيضاً عبر تدخل الدولة المصرية في تحديد الضرائب وتكاليف الترخيص، وتدخل المنظمات الدولية في تشريع علاقات العمل ومعايير الجودة، وتدخل التجار المحليين في رفع الأسعار وانخفاضها حسب مكاسبهم المتوقعة، نهيك عن تاريخ الاستعمار والسياسات الاقتصادية الناصرية والساداتية.
لذا لا يمكن دراسة السوق إلا في سياق سياسي واجتماعي وثقافي أوسع، ولا يمكن فهم الأسعار إلا في هذا السياق الذي يحدد تفكير المواطن المعاصر عن الأسعار ومصادرها (سواء كان يؤمن بتسعير الله أو بتسعير السوق)، كما يحدد البنيات السياسية والاجتماعية التي تحجم الأسعار في الواقع. في الظرف الراهن، هذه البنيات تشمل البيروقراطية الوطنية والجيش الوطني ورجال الأعمال الوطنيين والتمويلات الخارجية الوطنية، التي تساهم كلها في إبقاء الاقتصاد على حاله ولا تنتظر من السوق “المسعّر القابض الباسط الرازق” شيئاً.
المثير للدهشة أن الدولة المصرية تستبعد دورها الشخصي في تنظيم الأسعار والأسواق بينما أدت سياساتها المباشرة والغير مباشرة إلى الغلاء الذي نراه حالياً. تتعامل الدولة بمنطق أن الأسعار للسوق والتجار والسماسرة، وكأننا نعيش في خيال الاقتصاديين الليبراليين، وكأن دورها يقتصر على حماية المواطن إذا أمكن. بشكل أو بآخر، تدعي الدولة أن السعر لله والوطن للجميع، بمعنى أن الأسعار في أيدي آلهة السوق، بينما الوطن يظل تحت حمايتها، وكأن السعر والوطن لا علاقة لأحدهما بالآخر.
هذه المفارقة بين دور الدولة الحقيقي وخطابها الرسمي تتبيّن في شعار قومي آخر، وهو: الدين لله والوطن للجميع. هذا الشعار ينادي بفصل السلطة الإلهية عن السلطة الدنيوية، رغم أن الدولة المصرية تحتفظ في الواقع بدور قوي في تنظيم الأسواق وتنظيم العلاقات بين الطوائف الدينية، كما تفرّق سياساتها بين الغني والفقير والمسلم والمسيحي. إذن الشعار الوطني الموّحد يخفي الصراعات الطبقية والعقائدية التي تجرح البلاد، وينفي مسؤولية الدولة عن الغلاء والفتنة. التغاضي عن تلك الصراعات لن يحسّن الوضع بقدر ما يخفيه تحت راية أيديولوجة مشوّشة، بعيدة كل البعد عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعية.
الشعارات يمكن أن تحمس البشر على فعل الخير، والعدالة الاجتماعية والدينية خير يجب أن نتمناه جميعاً بلا شك. ولكن عندما يصبح التحليل مغيماً تحت الشعارات الفارغة، لا بد من انتقاد الشعار وتفكيك تداعياته. في وطن لا يبالي بالفقير ولا يعترف بالمساواة بين الأديان، لا يمكن الإيمان بالشعارات القديمة ولا استخدامها بدلاً من التحليل الجاد.
فربما كان السعر والدين لله، ولكن وطننا ليس للجميع.
نشر هذا المقال على موقع التحرير في 8 يونيو 2017، وهنا رابط المقال الأصلي