ذهب صديقي ذات يوم إلى باريس، ووصف لي تجربته في مدينة الحب والجمال، وزياراته للمتاحف والأحياء الثرية، واستمتاعه بالجو الباريسي الأنيق. ثم زار صديقاً له في حي “بيل ﭬيل” على أطراف باريس، وقال لي: “بيل ﭬيل دي زي دار السلام”. ضحكت. مع أني زرت باريس عدة المرات، لم يصادفني أن ذهبت إلى ضواحيها ولم أر “بيل ﭬيل”، ولكني مررت بدار السلام ولذلك ضحكت عندما جمع صديقي بين المكانين في نفس العبارة، بينما كان يتحدث عن مدى بؤس الحي وبؤس سكانه وانعزاله عن باريس.
ضحكت ليس تعالياً على معاناة البشر في باريس أو في دار السلام، إنما نظراً للتصور الشائع عن مدينة أوروبية عريقة مثل باريس وحي شعبي مصري مثل دار السلام. في خيالنا الطبقي، ثمة فكرة تزعم أن الحضارة في أوروبا وليس في مصر، أو على الأقل، أن الحضارة داخل الكومباوند والتأخر خارجه، لذا لا يمكن ذكر باريس ودار السلام في نفس الجملة بدون أن تدهشنا المقارنة. ومع ذلك، فصديقي الذي نشأ في مناخ شعبي مصري أدرك أن “بيل ﭬيل” هي دار السلام، وأن باريس هي القاهرة.
هذا الإدراك لا ينفي الفروق السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين باريس والقاهرة، لكنه يعبر عن إحساس بوجود نظام خانق يجعل الحياة جحيماً لغالبية من يعيشون في المدن الكبرى. هذا النظام الخانق المستبد يسمى بال”رأسمالية المتأخرة” أو ال”ليبرالية الجديدة” في الكتابات الأكاديمية، ولكن تداعياته تختلف حسب الزمان والمكان. مثل تلك التداعيات ترتبط في مصر بالاستعمار البريطاني والدولة العسكرية والفساد المباركي، لكن تأثير هذه العوامل لا يظهر بنفس الشكل وبنفس القوة في فرنسا.
يظل الفرق الطبقي والثقافي بين أحياء الأثرياء والفقراء من الثوابت المحسوسة للنظام الرأسمالي في جميع أنحاء العالم. عندما يعجز العقل عن وصف الفروق الطبقية بين البشر، يتوجه فوراً إلى سكان الزمالك ودار السلام كأنماط للثراء والفقر، وكذلك في حالة سكان الشانزليزيه و”بيل ﭬيل” في فرنسا. بالطبع كأي نمط، هذا التعريف ينفي التطورات التاريخية التي أدت إلى التفرقة بين الغني والفقير، وبين فضاء باريس وفضاء دار السلام، كما ينفي أيضاً كيف أصبحت العلاقات بين نوعي الأحياء “طبيعية” و”منطقية” عبر الزمن.
مع ذلك، تنبهنا الرؤية النمطية لإحساس الطبقات العليا تجاه الطبقات الأدنى. الاحتقار الطبقي الموجه لحي دار السلام في مصر يعادل الاحتقار الموجه لسكان “بيل ﭬيل” في فرنسا. قال صديقي إن من يعيش في بيل ﭬيل مجتمع مختلط من اليهود والسلفيين والصينيين، أي الفصائل الاجتماعية التي تعاني من العنصرية الشديدة الموجّهة نحو المهاجرين وأولادهم في فرنسا. مصطلح ال”هجرة” في السياق الفرنسي لا يشير إلى سكان فرنسا الجدد، إنما يشير إلى السكان المتمثلين في أحياء مثل “بيل ﭬيل”، الذين يعيشون في فرنسا منذ عقود، ولكن لا يُعتَرف بهم كجزء من النسيج الاجتماعي الفرنسي، ويعانون يومياً من التمييز العرقي والطبقي. الدليل أن المرشحة اليمينية المتطرفة للرئاسة الفرنسية مارين لوبين تعادي هؤلاء المهاجرين بكامل قواها، وتستقطب %20 من الشعب الفرنسي في تلك المعاداة.
تبقى لوبين العلامة الظاهرة لمشاكل عميقة في المجتمع الفرنسي، مشاكل تتمثل بالفعل في العنصرية ضد الذين يسمون بال”مهاجرين”، وتتمثل أيضاً في السياسات الاقتصادية التي دفعت إلى التفرقة الهائلة بين أحياء باريس الراقية وحي “بيل ﭬيل” المتواضع (ومع الفارق التاريخي، بين الأحياء الثرية في القاهرة ودار السلام). في رأيي أن المسافة الاجتماعية بين هذه الأحياء لا تعبر عن اختلاف جذري بين فرنسا ومصر، لأنها نتيجة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية متشابهة. نستطيع أن نقارن بين الحالتين كما فعل صديقي عند زيارته لباريس، ولذلك التشبيه بين باريس ودار السلام ليس مدهشاً، لأن “دار السلام” تحيا في قلب كل مدن العالم.
نُشر هذا المقال على موقع التحرير يوم 11 مايو 2017، وهنا رابط المقال الأصلي