إشمعنى عبد الناصر؟ إتعلمنا في المدارس إن ثورة 1952 نجحت بفضل مجموعة من الضباط الأحرار في الجيش الملكي الاستعماري الفاسد، إنما إشمعنى عبد الناصر هو اللي قدر يستولى على الحكم لغاية ما مات؟ الواحد بينسى إنه عبد الناصر كان شاب ساعة الثورة، وإن اللواء محمد نجيب حكم تقريباً سنتين بس بعد 1952، وناسي إن كان فيه كذا ضابط من الأحرار ينفع يحكم في اللحظة دي، فلازم نرجع ونسأل إشمعنى عبد الناصر في الظروف دي؟ أكيد الجو السياسي والاقتصادي والاجتماعي وقتها سند انفجار عبد الناصر على الساحة، إنما الإجابة عن سؤال إشمعنى هو ومش حد ثاني ترجع للي ماكس فيبر سماه “الكاريزما”.
“فيبر” إهتم بالكاريزما عبر قراياته في تاريخ الأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية. في دراسته للديانات دي كلها، إتضح له إن الأنبياء نوعين: النوع الأخلاقي، اللي عنده رسالة عن التعاملات الدنيوية بناءً على قواعد دينية مكتوبة ومتأصلّة، والنوع المثالي، اللي حياته نفسها معجزة لازم تتكرر كأعلى مثال للبشرية. النبي موسى نموذج النبي الأخلاقي، بيدفع البشر لأنهم يتبعوا قواعد مش هو اللي كاتبها إنما هو اللي متولي نشرها، بينما بوذا نموذج النبي المثالي، ماعندوش لستة قواعد معينة إنما حياته هي القاعدة اللي بيتبعوها البوذيين وبيقلدوها عشان ربنا يكرمهم.
إن كان برسالة أخلاقية أو حياة مثالية، النبي له سلطة شرعية على البشر عن طريق الكاريزما. عند “فيبر” مفهوم الكاريزما أعمق من إننا نقول مثلاً إن محمد رمضان “واد كاريزما” زي أبوه الروحي أحمد زكي. الكاريزما بالمعنى ده مجرد طاقة جذّابة، حاجة مش قادرين نشرحها موجودة عند حد معين، زي ما تقول إن ربنا محبب خلقه فيه. وبالفعل أصل كلمة الكاريزما باللغة الإغريقية هي الحاجة اللي ربنا مديها لحد بلا سبب واضح، والدنيا أرزاق زي ما إحنا عارفين. إنما أهمية الكاريزما عند “فيبر” مش مجرد إن ربنا إداها لحد، لأن ربنا كريم وياما بيدّي، بس إن الناس نفسها آمنت بالنبي ده ورسالته دي ومثاله ده، وقررت تتبعه بكل إخلاص. يعني الكاريزما مش مجرّد طاقة جذّابة، دي طاقة بتجتذب الناس للنبي وبتخليهم يخضعوا له.
الفرق البسيط ده واضح في زمن الأنبياء، وقت ما كان فيه ستين واحد بيدعوا لديانة جديدة، بس في الآخر ما نجحش إلا إبراهيم أو موسى أو اليسوع، لأن هم اللي عرفوا يحشدوا الناس حولين ديانتهم بفضل الله. لو نقلنا نفس التفكير لزمن عبد الناصر، هنلاقي إن ياما كان في ضباط عندهم طاقة جذّابة وقت الثورة، إنما عبد الناصر الوحيد اللي نجح في إنه يبني شعبية مهولة، لدرجة إن الناس اقتنعت إنه هو الريس حتى من غير انتخابات، حتى بعد هزيمة 67، حتى بعد ما حبس الإخوان والشيوعيين، حتى بعد إنهيار رسالة العروبة، اللي الناس اقتنعوا بها زي ما اقتنعوا برسائل الأنبياء.
حكاية الكاريزما مابتنتهيش هنا: الفكرة مش بس إنه واحد ربنا كرمه وبقت الناس تحبه، بس إن مجموعة الناس اللي حواليه ممكن تكثر وتكثر لغاية ما يبقاش فيه فرصة لأن الشخص الكاريزما يحكم البشر برسالته أو ممارسته المباشرة. في الحالة دي أتباع النبي بيخلقوا ممارسات ومؤسسات واخدة شرعيتها من تقاليد وتعاملات إدارية المفروض إنها جاية من رسالة أو ممارسة النبي، والله أعلم. يعني المسيحيين النهاردة ما عندهمش فكرة مباشرة عن اليسوع ورسالته، إنما عندهم كتب وكنايس وقسيس وشمع وأيقونات وصلبان إلخ، وكذلك بالنسبة للمسلمين واليهود والبوذيين.
“فيبر” سمّى التطور ده “روتينية الكاريزما”، يعني إن الحاجة الربانية الجذّابة اللي خلت الناس تجمع عالشخص الكاريزما بقت عادية ويومية وجزء من الروتين، لدرجة إن الكاريزما بتروح والتقاليد والمؤسسات بتيجي. ممكن الواحد يفكّر في بدايات الإسلام كده: الوحي اللي نزل على النبي محمد (صلعم) وحياته بقوا القرآن والسنة، واتأسست الدولة الأموية وظهر مفهوم الأمة الإسلامية، ولكن ما حدِّش (حتى أخونا السلفي اللطيف) يقدر يرجع للحظة الكاريزما بتاعة النبي محمد (صلعم) إلا عن طريق التقاليد والمؤسسات الموروثة، من مذاهب وجوامع وكتب وسجاجيد صلاة وسبح إلخ. وكذلك في حالة عبد الناصر: اللي مات حي في مؤسسات الدولة الناصرية.
يعني الكاريزما حسب “فيبر” مش مجرّد صفة شخصية، دي لحظة ثورية يا بتموت مع اللي جابها، يا بتعيش بأشكال روتينية. والواحد مش محتاج دليل أكبر عن روتينية الكاريزما من إن عبد الناصر بقى محطة مترو.