ليه العساكر بتنفذ الأوامر؟ أكيد عشان ناس أخلاق وذوق وزي الفل. بس إيه اللي يمنع العسكري من إنه يخالف الأوامر إذا الشيطان لعب في دماغه؟ أو من غير ما يقصد زي في أفلام إسماعيل يس في الجيش؟ أكيد مافيش حاجة تمنعه في المطلق، لكن المؤسسة العسكرية مبنية تحديدًا عشان تمنع أي تصرف فردي برة الأوامر المباشرة. البنية دي مترسخة حتى في طريقة ضبط أجسام العساكر: إزاي بيمشوا، وإزاي بياكلوا، وإزاي بيحلقوا شعرهم، وإزاي بيشيلوا السلاح، وإزاي بيقفوا قدام اللواءات، إلخ.
لمّا المؤسسة تتحكم في كل تفاصيل حياة أفرادها، حتى في مشيتهم وأكلهم، بترسخ قوتها جوة جسم العسكري نفسه، وبتصعّب عليه إنه يتمرد على المؤسسة أو إنه يغلط بشكل كوميدي زي إسماعيل يس. الانضباط الجسدي ده أساس قوة المؤسسة العسكرية حسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
كتابات فوكو مش بس عن المؤسسة العسكرية، ولكنه بيركز عمومًا على مؤسسات بتشتغل بالانضباط الجسدي، زي مستشفى الأمراض النفسية، والمدرسة، والسجن، والمصنع، إلخ. إيه اللي بيجمع بين المؤسسات دي؟ زي ما قال الفيلسوف جيل دولوز، المؤسسات دي مش مجرد مؤسسات، إنما هي كمان أماكن حبس: المريض النفسي محبوس جوة المستشفى، والطفل محبوس جوة المدرسة، والعامل محبوس في الشغل، والمسجون في السجن. أكيد المريض النفسي مش زي الطفل والعامل والمسجون، ولكنه محبوس زيهم في مكان بيفرض قوته جوة جسمه عن طريق أدوية وكهرباء ولبس معيّن وأوض معيّنة، وكذلك في حالة الطفل اللي لازم يقعد ساكت على مكتبه وما يتكلمش وما يتحركش، وإذا نطق يتذنب ويتضرب، أو في حالة العامل اللي لازم يفضل واقف على الماكينة وما يتحركش لغاية نهاية الوردية.
فبالإضافة لإنها أماكن حبس، المؤسسات دي بتعجن في البشر لغاية ما تكوّن منهم بني آدمين “مضبوطين”، ناس أخلاق وذوق وزي الفل. المعادلة هنا معكوسة: العسكري مش بينفذ الأوامر عشان هو أصلًا أخلاق وذوق، ولكنه أخلاق وذوق عشان اتضبط في مؤسسات كثيرة على مدار حياته. يعني لما الجيش يجي يضبط عسكري منهم، ما بيبتديش من نقطة الصفر، هو بيكمل على شغل مؤسسات ثانية زي المدارس والمستشفيات والمصانع وأحيانًا السجون، اللي بتفضل تفَرْمَط البني آدم طول عمره. ده جزء أساسي من تفكير فوكو: إن تجربة الواحد في كل المؤسسات دي بتكوّن شخصيته، وفي الغالب بتزرع جواه أنماط معينة من التعامل والتفكير. وعشان كده أفلام إسماعيل يس في الجيش وفي مستشفى المجانين وفي السجن بتضحّك، لأنه واضح إنه ماتزرعش جواه أي نمط لا من التعامل ولا من التفكير.
ناس كثيرة هاجمت نظريات فوكو لأنها مبنية على مادة تاريخية أوروبية وفرنسية تحديدًا، وقالوا إن مش ممكن نستمدها لمستعمرات سابقة زي مصر والهند وأندونيسيا. ولكن مصر غير المستعمرات الثانية دي لإن الثقافة الفرنسية أثرت في بنية مؤسساتها من ساعة محمد علي الكبير. يعني أفكار فوكو فيها نوع من الألفة التاريخية مع الخبرة المصرية، ولذلك التفكير في الانضباط عن طريق مؤسسات زي الجيش والمستشفى والمدرسة والمصنع منطقي في مصر.
مع ذلك، فوكو ماخدش في الاعتبار قدرة البشر على التمرد والنضال. لو كانت المؤسسات حابسة الناس للدرجة دي، حبساهم حتى جوة أجسامهم وشخصيتهم، عمر ما كان عسكري خالف أوامر، وده مش صحيح تاريخيًا بدليل إن الضباط الأحرار ثاروا على الجيش الملكي، وإن السادات مات بسبب عساكر متمردين. ونفس المبدأ ينطبق على الأطفال اللي بتتشاقى في المدرسة، والعمال اللي بتنظم إضرابات، والمساجين اللي بتحاول تهرب. يعني في الآخر، مافيش حاجة تمنع التمرد في المطلق، حتى لو ده مش ممكن من وجهة نظر المؤسسات، وحتى لو المؤسسات بتحاول تضبطنا.
نُشر هذا المقال على موقع التحرير في 20 مايو 2016، وهنا رابط المقال الأصلي