ليه الناس مابتثورش؟ قعدنا تحت حكم ديكتاتوري غبي وحرامي وفاشل، وكل الناس شايفة غباءه وسرقته وفشله، بس ماحدش نزل الشوارع إلا بعد ثلاثين سنة. كانت الناس نايمة؟ أكيد لا، لأن فيه مناضلين وطلاب وعمال كانوا دايما بينزلوا وبيقاوموا.
يعني الناس خايفة؟ أكيد، لأن أجهزة الأمن مابترحمش. ومع ذلك، الناس نزلت بعد ثلاثين سنة غصب عن أي حاجة. طيب ليه الناس مانزلتش قبل كده؟ وليه الحكم الديكتاتوري استمر برغم كل شيء؟ جزء أساسي من الإجابة عند الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي، اللي اتسجن في العشرينات من القرن الماضي تحت حكم فاشي، وكتب عن أسباب فشل اليسار في إعداد ثورة شعبية في إيطاليا، اللي لما حصلت جابت الحكم الفاشي اللي سجنه.
جرامشي بيفرّق ما بين جزئين أساسيين في المجتمع: المجتمع المدني، اللي فيه الناس المطحونة العادية مع شوية مثقفين، والمجتمع السياسي أو “الدولة”، اللي فيها كل فروع القمع المباشر من الجيش والبروقراطية والحكومة. حسب جرامشي الدولة عندها طريقتين للسيطرة على المجتمع المدني: يا بالقوة البحتة، يا بالهيمنة. طبعا مافيش دولة في الدنيا هتعرف تقمع الشعب بشكل مباشر إلى الأبد، لأن الخسائر المادية عالية والاستقرار للمصالح الكبيرة مستحيل، إذن لازم الدولة تفرض هيمنتها، يعني تنشر ثقافة عامة للناس عشان تصدق إن الحكم القائم كويس، وإن الطبقة الحاكمة كلها ناس كويسين.
طبعًا الثقافة ديه مش دايمًا ساذجة للدرجة دي، حتى لو الواحد بيفاجأ من سذاجة محاولات الدولة المصرية لإصدار صورة كويسة عن نفسها. بس أيًّا كانت الثقافة المهيمنة، لازم تخلي الناس موافقين على الدولة القائمة. إن كنا بنتكلم في صباع كفتة بيعالج فيروس C أو قانون لحفاظ الاحترام للعَلَم والنشيد الوطني أو توجيه إعلامي لصالح الجيش الوطني والمرشح الوطني، المهم إن معظم المجتمع المدني يتقبّل الأفكار ديه ويصدّق إن جيشه أحسن جيش، ودولته أحسن دولة. فكرة جرامشي بسيطة وعظيمة: مافيش حكم أنجح من إنه يقنع المحكومين إنه عظيم، حتى لو الحكم نفسه غبي وحرامي وفاشل.
عشان هيمنة الدولة بتتدخّل في كل عناصر حياتنا، إحنا مش دايمًا قادرين نعرف إيه مصدر الهيمنة، زي مابنقدر نعرف مصادر القمع المباشر: الجيش، الشرطة، اليبروقراطية، إلخ… الفكرة إن الثقافة المهيمنة مش دايمًا بتتصدّر من الدولة نفسها (من الإعلام الحكومي، أو من المناهج التعليمية)، لكنها بتتصدّر من المثقفين، بأوسع معنى للكلمة: الصحافة والإعلام والفنانين والكُتّاب والجامعة والقداء والخبراء الاستراتيجيين إلخ. المثقفين عند جرامشي مش مجرد “نخبة”، لكنهم في الغالب بيصدّروا أفكار مأيدة للدولة القائمة يوميا، بدون ما الدولة تتدخّل مباشرة، و مع إن المثقفين بيدعوا الاستقلال.
الكلام ده واضح في فكرة بسيطة اتصدّرت للشعب المصري وهو مصدق بكل قلبه: فكرة “نزاهة القضاء”. من ناحية عندنا مدرسين جامعة وخبراء استراتيجيين لابسين بدل ومحترمين بيقدموا جهاز “القضاء” وكأنه بيتعامل بالقانون وبس، وإن الدولة بعد الثورة فجأة بقت دولة القانون، وإن كل حاجة بعد الثورة لازم تتعمل بالقانون، ومن ناحية ثانية، عندنا قداء خربان وفاسد وبيحكم على الآلاف بالإعدام، بغض النظر عن القانون القائم، وصراعات القوة اللي أنتجت القانون ده أصلا، ومفهوم العدالة اللي مشروع في القانون. بس الفكرة المهيمنة ديه مالهاش علاقة بواقع القضاء: هي متعلّقة بإصدار فكرة إيجابية عن الدولة القانونية المحترمة، اللي الناس تحب تصدّق إنها عايشة فيها، ومستعدة تخلي الدولة اللي عارفينها زي ما هي لمجرد الأمل إنهم يعيشوا في دولة “القضاء النزيه”.
في الآخر، الفكرة المهيمنة مالهاش علاقة بالواقع لكن بصناعة الواقع للجماهير، والمثقفين هم اللي بيصنعوا الواقع ده في كلامهم وكتاباتهم اليومية. طبعًا مش كل المثقفين: جرامشي كان دايما بيفرّق ما بين المثقف التقليدي، اللي شايف نفسه بيتحدث عن المجتمع من براه، والمثقف العضوي، اللي بيفكر في المجتمع من جواه، وممكن يبقى أي حد عنده وعي سياسي وحماس. الفرق إن المثقف التقليدي ممكن أوي يردد الثقافة المهيمنة زي الببغاء، عشان استقلاله الزائف بيزوّد مصداقية الثقافة ديه، ولكن المثقف العضوي مش ممكن يضحك عالناس، لأنه منهم وليهم فيما يخص كشف وتكثيف صراعات القوة. معنى الكلام ده مش إنه المثقفين نيّموا الشعب، بس إن الشعب اقتنع بكلامهم ونام من نفسه، ومش ممكن يرجع يفكر إلا إذا المثقفين العضويين فيه عرفوا يصحصحوه.
نُشر هذا المقال على موقع التحرير في 14 مايو 2016، وهنا رابط المقال الأصلي