إيه أهمية الفلسفة؟ ده سؤال مابيشغلش مجتمعنا الأكل عيشي الحالي، إنما ده سؤال أساسي في إطار تطوير الفكر والثقافة ونقد النظام القائم. الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز جاوب عالسؤال ببراعة في كتاب صغير عنوانه “ما هي الفلسفة؟”. الكتاب بيبدأ بوصف و إنتقاد رؤيتين منتشرتين للفلسفة: في الرؤية الأولى الفلسفة عبارة عن تأمل، و الفيلسوف هو اللي بيخترع وبيِفْرٍز وبيفنط وبينشر أفكار من دماغه إلى عامة البشر (ديه رؤية مشهورة بفلاسفة زي ديكارت أو كانط أو طه حسين)، و في الرؤية الثانية الفلسفة عبارة عن إرسال معلومات مفيدة، و الفيلسوف هو اللي بيِفْرِز وبيفنط وبينشر المعلومات ديه، كأنه مذيع في التليفيزيون (وديه رؤية مشهورة بهابيرماس).
دولوز مش موافق على الرؤيتين دول، عشان بالنسبة له الفلسفة لاهي تأمل، لأن التأمل بإختصار تنظير عالفاضي، و لاهي إرسال معلومات، لأن المعلومات مابتشجعش عالتفكير قد مابتشجع عالتقبّل من غير معارضة. و في رأي دولوز، الفلسفة مش كده خالص، لأنها عبارة عن صناعة مفاهيم. زي أي صناعة، الفلسفة محتاجة مجهود بشري حقيقي، بس موظف للقراءة والكتابة والتفكير، يعني مش مجرد أي حد يخترع من دماغه أو يكتشف حاجات نازلة من السماء. وبرده زي أي صناعة، صناعة المفهوم لها مُنْتَج، و المنتج ده (المفهوم) مش مجرد تنظيرة عالفاضي ولا خبر إعلامي: المفهوم عبارة عن نقطة مكثفة بتجمع ردود كثيرة على إشكالية معينة. يعني المفهوم كأنه إجابة فزورة معقدة، بتجمع تحولات فكرية بخصوص سؤال واحد في إجابة واحدة. هنا دور الفيلسوف إنه يخلق ويشكل ويصنفر ويورنش السؤال ده بشكل واضح، و بعدين يطرح إجابة عالسؤال (أو الفزورة) اللي إتشكلت.
خلينا نرجع لسؤال البداية: إيه أهمية الفلسفة؟ السؤال ده إتشكل عبر تاريخ فكري عظيم، ممكن نرجّعه من قدماء اليونانيين لما سقراط كان شايف إن الفلسفة والحوار الفلسفي أساسيين في توليد حقائق إنسانية، وأفلاطون كان شايف إن الفلسفة بتفتح لنا عالم الأفكار المثالية اللي بيشكل واقعنا، وأرسطو كان شايف إن الفلسفة نوع من دراسة الطبيعة بتفرز العالم عشان نفهم مبادئه، و بعد اليونانيين ممكن نذكر الفلاسفة الإسلاميين زي إبن رشد و إبن سينا، اللي كانوا شايفين دور الفلسفة في توليف المنطق والإيمان، و ممكن نذكر فلاسفة حداثيين زي ديكارت و كانط، اللي كانوا شايفين إن الفلسفة هي إكتشاف لحقائق العالم بالمنطق الفردي، و ممكن نذكر فلاسفة ماركسيين زي ألتوسير وأدورنو، اللي شايفين دور الفلسفة في إنتقاد أيديولوجية النظام القائم.
مع كل الناس و الأفكار اللي ذكرناهم بسرعة هنا، و إحنا ما ذكرناش حتى كل اللي ممكن نذكرهم، شوفنا إن سؤال بسيط زي “إيه أهمية الفلسفة” طلع له إجابات كثيرة و مختلفة حسب السياقات التاريخية والفكرية. بدون تطويل في الموضوع، ممكن نرجع و نسأل إيه أهمية الفلسفة ثاني طالما الإجابات دايما متعددة ومختلفة. هنا مفهوم “المفهوم” عند دولوز بيرد عالإشكالية في كلمة واحدة: قاللك دولوز إن كل الفلاسفة بيصنعوا مفاهيم، يعني كلهم بيجتهدوا عشان يقدموا إجابات مكثفة لإشكاليات محددة، و مع إنهم مش دايما موضّحين إيه الإشكاليات ديه، فالفيلسوف لازم أولا يوضّح إيه السؤال المطروح، و بعدين يوضّح الإجابات المطروحة، و في الآخر يوصّل كلمة بسيطة تشرح خلاصة الإجابات ديه إيه.
ليه نصدّع نفسنا بلاكلام ده بقى؟ لأننا في رأيي عايشين في مجتمع فيه إشكاليات (يعني مشاكل) كثيرة، ممكن نحددها ونمييزها ونحللها ونفكر في حلولها، بس إحنا بنطنشها أو مابنفهمهاش أوي أو بنحس بيها من غير ما نفهمها أو مابنحسش أصلا. دولوز بيورينا إن الفلسفة ممكن تساعدنا نحدد إيه الإشكاليات ديه أساسا، و بعدين نوصل لحلول و إجابات مركزة في صورة “مفاهيم” بتجمع ما بين تحولات الإشكالية اللي تهمنا عبر التاريخ، و نطرح لها حل فكري مبدئي. دولوز برده بيفكرنا إن الفلسفة مش مجرد بحلقة في السقف أو ترديد لمعلومات بتتقال في التلفزيون أو عالإنترنت، لكنها محتاجة مجهود ذهني من حيث القراءة والكتابة والكلام والحوار. في الآخر، المفاهيم الفلسفية مالهاش قيمة إلا في وجود مشاكل تستاهل الحل، و في مجتمع مش شايف أي فايدة للفلسفة، مفهوم “المفهوم” بيقدم شرح واضح و بسيط لأهميتها: الفلسفة هي فرصتنا الفكرية في إننا نكوّن ردود عالإشكاليات اللي بتواجهنا.
نُشر هذا المقال على موقع التحرير في 26 أبريل 2016، وهنا رابط المقال الأصلي