كلما تحدثت مع المصريين، كلما اندهشت من آراءهم الصارمة عن طبيعة “الشعب المصري”. يوصف المواطن المصري شعبه بشكل مباشر وصريح، وصفاً يبدأ دائماً بعبارة “الشعب المصري شعب…” ويختتم بواحدة من الصفات الآتية: عظيم، عجيب، غريب، غلبان، جوعان، إبن نكتة، عايز يتربى، مايمشيش إلا بالكرباج، لا يمكن يتغيّر، إلخ.
الغريب في الأمر أن يجوز للمواطن الإعراب عن رؤيتين متناقضتين للشعب المصري في نفس اللحظة، والأغرب أن التناقض لا يثني المتحدث عن إصراره على رأيه، علماً بأن لا يمكن تكثيف ولا تعميم تجربة الملايين من البشر من طبقات وأطياف وتوجهات سياسية مختلفة تحت شعار “الشعب المصري” بدون أن يفقد البشر فرديتهم.
بالرغم من ذلك، يوجد تصور منتشر عن الشعب المصري يمكن صوغه كالآتي: “الشعب المصري شعب وسطي”. هذا يعني أن الشعب المصري ليس غنياً و ليس فقيراً، ليس متشدداً و ليس منحرفاً، ليس مناضلاً وليس عاجزاً، إنما أنه شعب الطبقة الوسطى والإسلام الوسطي والسياسة الوسطية والفكر الوسطي والتوسُط وهز الوسط.
لماذا تحتل الوسطية تلك المساحة في الخيال القومي، وبصفة أدق في خيال المواطن المصري الوسطي عن شعبه؟ ربما ترجع الفكرة إلى العهد الناصري وربما ترجع إلى العهد الملكي، في فترات تاريخية شاهدت نمواً كبيراً للطبقة الوسطى تحت إشراف الدولة وإنفاق القطاع الخاص. في هذا السياق، تتخذ فكرة الوسطية شكلاً طبقياً، ولكنها تمتد إلى ما هو أبعد من الطبقة المالية، حيث توحي الوسطية بنوع من الراحة والتوازن الذاتي والتواضع الثري، أي ببعد أخلاقي يمحو الفروق المالية.
ربما يقدم الفيلسوف الاسكوتلاندي ديفيد هيوم أفضل تلخيص لفكرة الوسطية في إحدى مقالاته القصيرة عنوانها “عن الوضع الوسطي في الحياة” (On the Middle Station of Life). يقول الفيلسوف إن أفضل وضع في الحياة من حيث السعادة والحكمة والفضيلة هو الوضع الوسطي بين البؤساء الذين يمضون حياتهم بحثاً عن احتياجاتهم المعيشية والنبلاء الذين يبحثون عن اللذة. الرجل الوسطي دون غيره لديه رغبة في التأمل الذاتي والفكري والفلسفي، بعيداً عن الاعتبارات المعيشية والملذات الرفاهية.
مع الفارق التاريخي، يعبر هيوم عن فكرة الوسطية المنتشرة في مصر، التي تصف أكثر من وضع فردي في مجتمع طبقي، بل توحي أيضاً بمفهوم أخلاقي يصف أسعد وأحكم وأفضل وضع في الحياة، وهو الوضع بين جوع الفقراء ورفاهية الأغنياء. فكرة الوسطية هذه منتشرة عند الاقتصاديين والمهندسين والدكاترة والمثقفين، مع أن هذه الطبقة الوظائفية لا تقع في موقع متوسط على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في مصر.
في الواقع، أصبح شعار الوسطية يخفي عدم التساوي الطبقي والاقتصادي والاجتماعي في مصر، وكأنه يوجد وسط بين الأغنياء والفقراء. لا يعني هذا أن الطبقة الوسطى ليس لها وجود موضوعي ومادي، ولكن الفكر الوسطي يمحو أية فروق طبقية وسياسية ودينية تحت نفس الراية الأخلاقية المهيمنة. لقد جعلنا من الوسطية فضيلة مثلما فعل هيوم في مقاله، فهكذا نستطيع أن نُبسّط الفروق الاجتماعية الشاسعة بين الفلاح ومالك الأرض، أو بين الموظف والدكتور، أو بين العامل ومدير الشركة، أو بين المسيحي والمسلم تحت شعار “الشعب المصري شعب وسطي”.
نُشر هذا المقال على موقع التحرير في 11 يوليو 2017، وهنا رابط المقال الأصلي